فيلم " Heretic" رعب نفسي خارج من دهاليز ثلاثية بيرغمان
كتبت ساندي ليلى
"لا يفوق المتعصب لإيمانه خطورة سوى ذلك الذي فقد إيمانه" حكمة أثبتها Heretic عبر ملحمة نفسية استغرقت 90 دقيقة لا أكثر، حيث ينطلق الفيلم المثير للجدل انطلاقة ساحرة مفعمة بالألوان والجمال حين نلتقي بالمبشرتين الأخت بارنز الواثقة والأخت باكستون الخجولة التابعتان لطائفة المورمون اللتان تجوبان المنازل لحمل رسالة جوزيف مورمون الإيمانية، تقودهما خطاهما وحظهما العاثر أيضاً إلى منزل السيد ريد الرجل الإنجليزي المنعزل بالغ اللطف.
ترفض الراهبتان في البداية الدخول إلى منزل لا تقطنه امرأة لكن السيد ريد يؤكد لهما أن السيدة ريد في المطبخ تعد فطيرة فتدخل المرأتان المنزل باطمئنان كي تبدأا مناقشة فلسفية دينية مع السيد ريد المهذب الذي يعجز عن المحافظة على تهذيبه طويلاً، فيتحول النقاش الباسم إلى معركة كلامية يبدو أن الفائز الأول فيها هو ريد، الرجل الذي يرغب وبشدة في تقويض إيمان الراهبتين بأي طريقة كانت.
إنه مصر على لعب دور المعلم أو المرشد والتبشير بما يسميه "الدين الحقيقي الواحد" فيستخدم إشارات إلى الثقافة الشعبية لإثبات وجهة نظره إنه ذكي كاسح مهيمن، كما أنه وضع المرأتين في قفص ضيق يدعوه منزلاً نكتشف لاحقاً أنه خارج من عوالم سلسلة Saw الشهيرة .
التشويق هو اسم اللعبة، ويتصاعد باضطراد منذ أول مرة نرى فيها منزل السيد ريد، فكل ما في المنزل يصرخ في الراهبتين أن تهربا كأن الشيطان يطاردهما.
نوافذ ضيقة بشكل غير منطقي، جدران مبطنة بالمعادن، عزلة مقلقة، ظلال كالحة، وبرودة تكاد تكون محسوسة، لكن أبطال أفلام الرعب يمتلكون حماقة من نوع خاص، وبارنز وباكستون كانتا شديدتي الحماقة للأسف .
الشيطان كان هناك بلكنة بريطانية جذابة، ووجه محبب وسيم يجذب ضحيتاه بصبر يحسد عليه.
السيد ريد كان مرعباً بشكل خاص، والسبب الأساسي في هذا يعود إلى هيو غرانت الذي أبدع بما لا يفوق الوصف مقدماً أداء استثنائياً بشكل لا يصدق.
غرانت الذي عرفناه في فترة التسعينات كفارس الأحلام الشهم الوسيم الذي يصعب ألا تقع في حبه، لكنه وعلى الصعيد الشخصي كان " بريطانياً " أكثر من اللازم مما جعله أسوأ شخص قد تتعامل معه.
في Heretic يسخر غرانت عجرفته البريطانية ببراعة تجعل قلبك ينقبض رعباً، إنه موهوب بحق خاصة أن الرعب الطاغي على الفيلم اعتمد بشكل مطلق على التحول الجذري الذي قام به جرانت لإبقاء الجمهور في حالة تأهب، حيث يمكنك معرفة اللحظة التي خلع فيها السيد ريد قناعه الودود بالنظر إلى ملامح غرانت الوسيمة فقط.
إن أسلوب جرانت في إلقاء الخطب يتسم بالغرور، ولكنه لذيذ في استفزازاته، حيث يضرب في الصميم النفاق والتناقضات داخل الدين، مثل واعظ معادٍ يلقي عظة بغيضة
ومن المثير أن نرى المبشرين يكتسبون القوة اللازمة للرد، في لعبة تنس آسرة عالية المخاطر أكثر إرضاءً من أي مشهد أكشن لربما شاهدته هذا العام.
يبدأ جرانت في إلقاء الخطب بقوة شديدة، لدرجة أنه يشعر وكأنه كان ينتظر شيئاً كهذا لعقود من الزمان بأداء يتمتع بالحرية الكاملة، وما يبدو وكأنه متعة حقيقية.
إنه يمنحنا ومضات من نفس السحر الذي نربطه به، ولكن هنا يتم استخدامه كجزء من سلاحه، بينما يحاول إقناع خصومه بممارسة لعبته السادية.
لو كنت ملماً بأعمال المخرج السويدي الأسطوري إنغمار بيرغمان، فلربما تستشعر قليلاً من التشابهات بين Heretic والثلاثية التاريخية التي حملت أسماء مختلفة كثلاثية الإيمان أو ثلاثية صمت الإله
بيرغمان الابن لقس لوثري متعصب صارم وجه يوماً سؤالاً طفولياً بريئاً أين الإله؟
سؤال قوبل بتقريع وصمت لائم من الأب، ذلك الصمت الذي كان العامل الأساسي في سينما بيرغمان القائمة بشكل شبه مطلق على الحوار.
في ثلاثية بيرغمان كان الإله هناك صامتاً متوارياً إنما موجوداً، بينما كانت الثلاثية الأسطورية صرخة إيمانية في بلاد فقدت معنى الحياة حتى أنها تعد أكثر البلدان تعرضاً للانتحار، أما Heretic فقد افتقد تلك الفلسفة الساحرة، مفضلاً أن يصب تركيزه على الأجواء المقبضة، والرعب المتواري خلف لطف وود رجل بريطاني بسيط.
تكمن أوجه التشابه بين العملين في حقيقة أهمية الحوار، لكن وبينما كان حوار بيرغمان رشيقاً ذكياً محسوباً بدقة حوار جعل من الثلاثية تحفة سينمائية لا تفوت.
كان حوار Heretic متركزاً على جنون السيد ريد الذي يرغب في اختراع إله يلائمه، فارضاً وجهة نظره بالعنف والألاعيب النفسية، في حوار فقد مساره مرات كثيرة لكنه لم يفقد الفيلم ذلك التوتر والتشويق الذي تصاعد تصاعداً صاروخياً أفقدته النهاية المفتوحة غير المقنعة رونقه الحقيقي.
لا يجرؤ الفيلم على التمادي في الفكرة التي يروج لها اسمه، فيتخذ لنفسه مهرباً ذكياً بتركيزه على الرعب النفسي الناجح بشدة. لكن ماذا لو لم يكن السيد ريد مجنوناً؟ ماذا لو كان أستاذاً متغطرساً يناقش تلاميذه محاولاً تغيير وجهة نظرهم بالإقناع والبراهين؟ ضدان متنافسان في حوار فلسفي منطقي تتواتر نبراته مع تقدم الأحداث نحو نهاية محسومة.
كان الأمر ليختلف بشدة طبعاً، لكن ومع ذلك لا يمكن أن نقول أنه فيلم سيء، فهو فيلم جيد بحق أحسن استخدام مفردات الرعب خاصته، وامتلك طاقم تمثيل محدود، لكنه جيد بشكل لا يصدق، كما أنه أعاد لنا هيو غرانت بحلة جديدة طال الشوق إليها
ختاماً ينبغي القول أن A24 فعلتها مجدداً، فهم بارعون في إثارة أعمق وأغرب المخاوف التي قد تخطر على بال أي أحد. يبدو أن شركة الأفلام المستقلة بإمكانياتها المحدودة قادرة على التفوق على صناعات هوليوود الباذخة، وتقديم رعب أصيل أبعد ما يكون عن القوالب المبتذلة التي تفشل في إخافة هرة.
فقط A24 تمتلك الجرأة لتقديم فيلم كامل كهذا وإعادة هيو غرانت كما لم نتخيل رؤيته يوماً.
Comments